حركة الربيون

(رواية إلهية عن الحرب)

المعركة في الميدان الصعب هي مقدّمة فقط؛ فالحرب الحقيقية تدور حول المعتقدات والروايات.

أن نستطيع، بناءً على آيات القرآن الكريم، تحديد المحاور الرئيسية لساحة المعركة، وتحضيرها وفقًا للجمهور المستهدف، وتعريف عمليات ميدانية بناءً عليها، فهذا هو أولويتنا الأولى.

البيعة للنبي (ص) هي السبيل إلى رضوان الله

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿١٨﴾

1- المبايعون الحقيقيون للنبي ص

عندما انتشرت الشائعة أثناء مسير المسلمين إلى مكة بأن مبعوث النبي (ص) قد قُتِل، وقبل أن يكون هناك أي حديث عن الصلح، أصبح الخطر وشيكًا وجديًا. لذلك، وبأمر من النبي (ص)، جُدِّدت البيعة (بيعة الرضوان) على أن يصاحب المؤمنون النبي (ص) حتى الموت وألا يفرّوا أبدًا.

وقد نُقِل في التاريخ أن بعضهم اختبأ وتوارى عن الأنظار حتى لا يراه أحد فلا يبايع. كما أن بعضًا آخر ممن بايعوا، لم يتمكنوا من الاختباء لأنهم كانوا تحت الأنظار، فاضطروا إلى المبايعة وقلوبهم غير راضية.

أما الفئة الثالثة، فقد عاشت في تلك اللحظة حالة من الانقطاع عن الدنيا، فبايعوا النبي (ص) بصدق وإخلاص. وهؤلاء هم الذين أثنى عليهم الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

2- معنى الرضوان الإلهي

في الروايات يُطرح هذا السؤال: كيف نعلم أن الله راضٍ عنا؟ فيأتي الجواب: انظروا في أنفسكم، هل أنتم راضون عن الله؟ فإن كنتم راضين عنه، فهو راضٍ عنكم.

ومتى يرضى الإنسان عن الله؟ يرضى عندما يتقبل قضاءه وقدره بوجوده كله. صحيح أنه يسعى لرفع المصاعب وحل المشاكل، ولكنه لا يكون شاكيًا من الله. هؤلاء هم “الراضية بقضائك، المطمئنة بقدرك”. أي أنهم يثقون بأن الله – كالأب الشفيق الحنون، بل وأعظم من ذلك – ما يقدّره لعبده هو في سبيل وصوله إلى الكمال. فإذا بلغوا هذه المنزلة، رضي الله عنهم أيضًا: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.

وهذا يعني أن ذلك التسليم المطلق في واقعة الحديبية، والاستعداد للتضحية بالنفس أمام ما قد يحدث، وعدم استبطاء النصر الإلهي أو التذمر من تأخره، كل ذلك يستجلب الرضوان الإلهي.

وكان هذا الرضوان الإلهي هو أعظم نعمةٍ أُوتوها، لأنه تعالى يقول في موضع آخر: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

3- الرضا الفعلي لله

يذكر القرآن الكريم هنا أن الله “رضي عن المؤمنين”. فما هو معنى رضا الله؟ وهل يتأثر الله سبحانه مثلما يتأثر عباده فيتغير حاله؟

الجواب هو أن الله سبحانه منزهٌ عن الانفعال والتأثر، فلا سبيل للتغيير إلى ذاته. لهذا السبب، فإن رضا الله هو من صفات الفعل، وليس من صفات الذات؛ لأن الانفعال يستحيل على ذاته تعالى.

وعليه، فإن الرضا من جانب الله يُفسَّر بأثره ونتيجته، وهو إعطاء الثواب ومنح الجزاء الحسن.

4- حفظ اللحظات المهمة للبيعة

لقد تمت هذه البيعة مع النبي (ص) تحت شجرة. والقرآن الكريم لا يذكر تفاصيل زائدة لا فائدة منها، فما هي خصوصية هذه الشجرة حتى يخلّد ذكرها؟

إن الله سبحانه يقرن هذه الواقعة الخالدة بملامحها المادية الظاهرة، لتتحول إلى لوحة حيّة تبقى خالدة في سجل التاريخ.

وهذا يُعدّ نموذجًا لنا، وهو أن بعض الأحداث المحورية يجب أن تُحفظ بتفاصيلها. فصحيح أن المبدأ الكلي هو الأهم، لكن هذه التفاصيل الجزئية هي التي تجعل الذكرى ترسخ في الأذهان بشكل أفضل.

5- سعة العبد في تلقّي الرحمة الإلهية

عندما علم الله ما استقرّ في قلوب المؤمنين من صدق ويقين ورضا بقضائه، أنزل سكينته عليهم، كما يقول: ﴿عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾.

إن كلمة “ثَوْب” في اللغة تشير إلى القماش الخام الذي لم يُفصَّل ولم يُخَط بعد، بينما “القميص” هو اللباس المخيط الذي اتخذ شكلاً ومقاساً. وقوله تعالى: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ يحمل هذا المعنى الدقيق؛ فالله سبحانه يمنح أصل الثواب (كالثوب الخام)، ولكن العبد بعمله هو الذي يُفصّل هذا الثواب ويُشكّله ويمنحه صورته النهائية. فالأمر يعود إلى العبد نفسه.

وهذا يعني أن الرحمة الإلهية فيضٌ لا متناهٍ، ولكن العبد هو الذي يستقبل منها على قدر سعته وأهليته، فيأخذ من هذا الفيض اللامحدود بمقدار وعائه.